على الرغم من كثرة ما سمعت وقرأت عن انتشار ظاهرة الزواج العرفي، حتى وصلت بها بعض الإحصائيات إلى نحو 17% من طلبة الجامعات المصرية وحدها، أي نحو 255 ألف طالب وطالبة، إلا أنني وفي قرارة نفسي لم أكن أستطيع التصديق أن هناك شبابًا لم تصلهم بعد الرسالة الإعلامية المكثفة التي توضح أن هذا الزواج هو الوجه الآخر للزنا، فعندما كانت تقام ندوة عن الزواج العرفي كانت أضخم المدرجات تضيق بالطلبة الذين جاءوا يستمعون رأي علماء الدين، ولكنني الآن أتساءل هل كانوا يبحثون عن الحكم الشرعي أم عن حل شرعي لمأزق وقعوا فيه، أو وقع فيه زملاء مقربون؟
الحقيقة أنه كثرت التساؤلات في ذهني وبدأت أصدق الأرقام المخيفة عن تفشي هذه الظاهرة، بعد أن عايشت وقائع مؤلمة لانهيار أسرة حل بها هذا الوباء المسمى بالزواج العرفي.
أسرة محطمة:
أسرة هادئة جدا تسكن أحد الأحياء الراقية، مكونة من خمس بنات وولد واحد صغير إضافة إلى الأب والأم ويعملان في وظائف مرموقة.. جميع الفتيات يلتزمن بالحجاب الشرعي عدا الصغيرة التي كانت تتساهل في بعض أحكامه.. عرف المسجد المجاور الفتيات الثلاث الكبيرات اللاتي كن يحفظن القرآن للأطفال في العطلة الصيفية وعرفت النساء الفقيرات منزلهن، حيث كن يتلقين الصدقات.. ولكنه بالطبع لم يكن بيتًا مثاليًّا، فكثيرًا ما تنشب الخلافات بين الأب والأم وتنتشر حالة من البرودة والخصام في أجواء البيت، وتحكي الأم أن أكثر فترة للخلافات مع زوجها عندما كانت ابنتها الصغيرة في مرحلة الطفولة، وكانت الخلافات تنشب أمامها، لذلك وفي حالة من رد الفعل وكلون من التعويض للصغيرة كانوا يدللونها ولا يرفضون لها طلبًا، واستمر هذا الوضع المدلل لهذه الفتاة حتى كبرت ثم خطبت ثم حدثت بعض الخلافات في تفاصيل الزواج نتيجة لمماطلة الخاطب في إجراءات الزواج، فشعرت أسرة الفتاة بعدم جديته وفسخت الخطبة ليفاجأ الأب بعد فترة وجيزة بعد أداء صلاة العشاء بعدد من المصلين يطلبون الحديث إليه، ويقولون له إن خطيب ابنتك قدم لنا ورقة زواج عرفي بينه وبين ابنتك، وأنه يريد مبلغًا من المال كي يطلقها، عرف المسجد كله بالقصة المؤسفة، بل علم الحي كله بها، وأصبحت الأسرة الهادئة محط نظر الجميع!!
أصبح الأب يخشى الصلاة في المسجد القريب، وأصاب الأم ارتفاع ضغط الدم ثم تصلب الشرايين، الأخ الصغير المتفوق رسب لأول مرة في حياته، الفتاة المخطوبة الأخرى- وهي معلمة قرآن- اعتذر خطيبها عن إتمام الخطبة ولم يتقدم لها أحد بعد ذلك.. الفتاة التي حبست في البيت بعد ذلك استدعت لأهلها الشرطة وزعمت أنهم يحبسونها في غرفة ويعذبونها وأنها غير قاصر، فلقد تخرجت من الجامعة، وخرجت من البيت في حماية الشرطة وسط ذهول الجميع وفي فضيحة مدوية للأسرة، وقبل أن تخرج من البيت نظرت لأخواتها الملتزمات بتحد وقالت لهن: هل تظنن أنكن أفضل مني، أنتن تخدعن أنفسكن، فأنتن محرومات- في إشارة حقيرة لتأخر زواجهن- خرجت الفتاة إلى الشارع حيث تملص منها الشاب المخادع ورفضت أي أسرة من الأقارب استضافتها.. خرجت تواجه مستقبلًا مجهولًا مخلفة وراءها أسرة محطمة كانت في يوم من الأيام أسرة هادئة.
مشكلة مجتمعية:
أوردت هذه القصة الحقيقية بشيء من التفصيل كي أضع هذه الحالة تحت المجهر.. حقيقة لكل حالة ظروفها وملابساتها، ولكن ثمة خطوطًا عريضة تربط بين جميع هذه الحالات أو الكوارث الاجتماعية، فلقد أورد القرآن الكريم قصص من هلك من قبلنا كي نعتبر ونفهم ونتفكر، من خلال هذه الحالات الإنسانية التي ضلت.. كيف ضلت؟ لماذا ضلت؟ ما المحصلة النهائية للضلال؟ ما الآليات التي ينبغي على المؤمنين اتباعها لتحجيم ظاهرة الضلال وأعداد الضالين؟
والمنهج القرآني في تحليل نفسية هؤلاء الضالين الفاسدين وتحليل مجتمعاتهم التي زينت المناخ الفاسد أسبق وأعمق بكثير من بحوث علماء النفس والاجتماع المعاصرين.. فعلينا إذن أن نتبع المنهج القرآني من خلال تأمل القصص الواقعية للشباب الذين وقفوا على حافة الهاوية، كتلك الفتاة التي سردنا قصتها بأمانة.
فالتربية الخاطئة التي تعتمد التدليل الزائد والاستجابة الدائمة لرغبات الأبناء، وعدم الوقوف بحزم أمام الأخطاء الصغيرة لبعض الأبناء، تعلمهم الأنانية كما حدث لفتاتنا، فلقد أخطأ أهلها عندما كانوا يتشاجرون أمامها وهي صغيرة، ثم أصبح الخطأ خطيئة بتدليلها الزائد حتى تحولت لإنسانة أنانية، وبالطبع لم تتلق هذه الفتاة مبادئ التربية الإسلامية عن أبويها، فليس الدين صلاة في المسجد وصدقات للفقراء فحسب، ولكن تواصل الوالدين مع الأبناء وحثهم على التمسك بالدين والفضيلة، هو جوهر التربية، فيعقوب يوصي أبناءه حتى وهو على فراش الموت {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي....} [البقرة: 133].. ليس معنى هذا أن تربية الوالدين الدينية تحقق نتائجها بصورة مطلقة، فنوح عليه السلام لم يستطع أن يدفع ابنه للإيمان مع شدة حبه ونصحه له، ولكن بذل الجهد والتمسك بكل الأسباب والدعاء للأبناء بالهداية، هي أمور لا يمكن للمربي المسلم أن يغفلها، وإلا اعتبر متخليًا عن رعيته، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته...» متفق عليه، وأخص بالذكر هنا أم الفتاة التي تعمل في وظيفة مرموقة تستهلك منها عددًا طويلًا من الساعات، فلم يتبق لديها الوقت الكافي لمتابعة الفتاة والتواصل معها، والتنبه لبداية انزلاقها، ولم يكن هناك من يتابع اتصالاتها الهاتفية التي مهدت الطريق للمصيبة التي وقعت فيها.. صحيح أن الفتيات الأخريات أخوات هذه الفتاة لم ينزلقن للخطأ، بل كن فاضلات ملتزمات بالدين والخلق، ولكن هذا لم يكن ثمرة التربية المنزلية، ولكنه هدى الله الذي ربطهن بالمسجد ودعوته فالتزمن.
لكن ما الدافع الذي دفع هذه الفتاة ومن في مثل حالتها للزواج بهذه الطريقة؟ أليس هو المناخ المجتمعي الذي تعقدت فيه سبل الزواج وانتشرت فيه العنوسة انتشار النار في الهشيم، فالأخوات الأكبر لهذه الفتاة وهن الأكثر جمالًا ودينًا لم يتزوجن، فانحرف تفكير الفتاة هذا الانحراف الشيطاني، علها تضمن زوجًا وتفرضه على أهلها وتنهي مشاعر الحرمان التي تعذبها، بدلًا من حالة الصبر العفيف الذي تعيشه أخواتها، وتمامًا كما أغرى مجتمع قوم نوح ابن نوح بالكفر أغرى مجتمعنا باختلاطه وفضائياته وغرف الدردشة التي لم تجد رقيبًا من داخل البيت هذه الفتاة لطريق الغواية، وزين لها الشيطان أن هذا الزواج العرفي هو من صور الزواج، لكنها يقينًا وفي قرارة نفسها تعلم أن ذلك غير صحيح، فتلاقي خداع النفس، مع وسوسة الشيطان، وصوت الغريزة، وفساد المجتمع، وافتقاد التربية، كل هذا أفضي إلى هذه الكارثة التي قضت على مستقبل الفتاة.
بين الدين والمجتمع:
إذا كان الله غفورًا رحيمًا، فهو غافر الذنب قابل التوب، يستطيع كل من اقترف هذه الكبيرة أن يندم ويصدق في ندمه ويتوب ويقبله الله تعالى ويبدل سيئاته حسنات.. لكن هذا ليس شأن المجتمع، فالفتيات الفاضلات الخلوقات يجدن صعوبة شديدة في الزواج في ظل أزمة العنوسة المتفاقمة، ومن تزوجت زواجًا شرعيًّا وطلقت طلاقًا شرعيًّا تجد صعوبة أشد في العثور على زوج، ولا يزال المجتمع ينظر إليها نظرة ريبة ويحملها ذنب الطلاق مهما كانت الأسباب، وهي نظرة مجتمعية لا علاقة لها بالدين على الإطلاق، بل إنها تنافي روح الدين والشريعة التي تتحدث عن الثيبات والأبكار على السواء..
فكيف ينظر المجتمع إلى من اقترفت هذا الجرم ووقعت في هذه الجريمة، إنها جريمة مخلة بالشرف، تدفع الفتاة النصيب الأوفى فيها ويكون جزاء المجتمع من جنس العمل، فالفتاة التي تتعجل مشاعر الحب وتتعجل إشباع غريزة يكون عقاب المجتمع أنه لا حق لها في أسرة طاهرة تتحقق فيها هذه المشاعر والأحاسيس الفطرية والشعور بالأمان، بل تبلغ قسوة المجتمع مداها حين يعاقب أسرة الفتاة كلها بذنب لم يقترفوه كما حدث في القصة التي حكيناها حيث فسخت خطبة الأخت الأخرى المتدينة جزاء فعلة أختها، وهي نظرة تتناقض مع المفهوم القرآني: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الزمر: 7].
إذا كان الزواج السري هو الزنا كما أفتى بذلك العلماء، وهو المسمى حديثًا بالزواج العرفي- كلون من ألوان تزييف الفاحشة- فإن كلًّا من الرجل والمرأة اللذين يقربانه آثم ومرتكب لكبيرة من أكبر الكبائر، ولكن باب التوبة مفتوح، ولابد لباب المجتمع أن يكون رحيمًا وأن يكون مفتوحًا هو الآخر- إذا كنا مجتمعًا متدينًا حقًّا- فيقبل التائبين ويمنحهم فرصة أخرى، والأهم من ذلك أن يغلق باب الشر والفتنة، باب العنوسة، وتأخر سن الزواج ورفع القيود البشعة التي تعوق الزواج سواء كانت قانونية أو مجتمعية.
الكاتب: فاطمة عبد الرءوف.
المصدر: موقع رسالة الإسلام.